فصل: أَنْبِيَاءُ الْعَجَمِ الْكَاذِبُونَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.خَاتِمَةُ الْبَحْثِ فِيمَنْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ:

نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِكَلِمَةٍ فِيمَنْ حَاوَلُوا مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دَأْبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِحْصَاءُ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُمْ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَتَدْوِينُهُ وَعَزْوُهُ إِلَى أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ عُلَمَائِنَا وَيَنْقُلُونَ مِنْهَا كُلَّ طَعْنٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيُؤَيِّدُونَهُ، وَيَكْتُمُونَ رَدَّ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ أَوْ يَذْكُرُونَ مِنْهُ مَا يَرَوْنَهُ ضَعِيفًا وَيُورِدُونَهُ مَوْرِدَ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ لِتَنْفِيرِ ضُعَفَاءِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَقْلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ.
وَقَدْ أَجْمَعَ رُوَاةُ الْآثَارِ وَالتَّارِيخِ عَلَى أَنَّ فَحَوْلَ الْبُلَغَاءِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ تَسْمُ نَفْسُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ- اللهُمَّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ أَنَّهُ عَارَضَ سُورَةَ الْكَوْثَرِ وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ مِنْهُ لِيُثْبِتَ لَدَى غَوْغَائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجُمَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ، إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ أَوْرَدَهَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَزَعَمَ أَنَّهَا فَصِيحَةٌ مُتَنَاسِبَةُ الْمَعْنَى، بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ سَأَلَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ وَهُوَ هُوَ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مُعَارَضَةُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ص65 وَهَذِهِ عِبَارَاتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَجَاهِرْ، وَلَا تَعْتَمِدْ قَوْلَ سَاحِرٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ جَاءَ مِنْ جَاهِلٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَلاسيما لُغَةُ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَخِيفُ الْعَقْلِ، فَمِنْ سُخْفِ عَقْلِهِ إِتْيَانُهُ بِكَلِمَةِ الْجَوَاهِرِ هُنَا وَتَرْتِيبُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إِعْطَائِهَا، وَفَرَضَ هَذَا وَحْيًا لِمُسَيْلِمَةَ الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ نَقْلٌ بِأَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ جَوَاهِرَ مَعْرُوفَةً تُذْكَرُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَتُذْكَرُ بِلَامِ الْجِنْسِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لِلْأَمْرِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالصَّلَاةِ هُنَا وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي جَهْرِ الشَّيْءِ أَوِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ، وَأَمَّا الْفِقْرَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُولُهُ عَرَبِيٌّ قُحٌّ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَالٌ لِلسَّحَرَةِ تُعْتَمَدُ أَوْ لَا تُعْتَمَدُ إِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا، وَإِنَّمَا السَّحَرَةُ أُنَاسٌ مُفْسِدُونَ مُحْتَالُونَ فَعَّالُونَ لَا قَوَّالُونَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي غَيَّرَهَا مِنَ السُّورَةِ صَحِيحَةٌ وَمُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ وَمُقْتَضَى الْحَالِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُعَارِضًا لَهَا بَلْ مُقَلِّدًا وَنَاقِلًا فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِاقْتِبَاسِ مَعَ التَّصَرُّفِ، كَمَنْ يُغَيِّرُ قَافِيَةَ أَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ بِمَعْنَاهَا أَوْ بِمَعْنَى آخَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ** أَنْ يُعَادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا

لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ** وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْحِدَقَا

قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ** فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاحْتَرَقَا

غَيَّرْتُ قَوَافِيَهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى بِالْبَدَاهَةِ فَقُلْتُ:
مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ ** أَنْ يُعَادَى طَرْفَ مَنْ مَقَلَا

لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا ** وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْمُقَلَا

قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى ** فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاشْتَعَلَا

مَقَلَ نَظَرَ بِمُقْلَتِهِ، ثُمَّ غَيَّرْتُهَا أَيْضًا بِكَلِمَاتِ: نَظَرَا، أَوْ بَصَرَا- النَّظَرَا- فَاسْتَعَرَا- فَهَلْ أَكُونُ بِهَذَا مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ، وَفِي طَبَقَةِ صَاحِبِهِ مَنْ غَزَلِ الشِّعْرِ؟

.إِعْجَازُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ:

وَأَمَّا السُّورَةُ فَهِيَ فِي أُفُقٍ أَعْلَى مِمَّا قَالَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَيْهِ الْمُبَشِّرُ الْجَاهِلُ الْمُخَادِعُ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
{الْكَوْثَرُ} فِي السُّورَةِ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَحْكِيهِ أَوْ يَحُلُّ مَحَلَّهُ فِيهَا، إِذْ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْبَالِغُ مُنْتَهَى حُدُودِ الْكَثْرَةِ فِي الْخَيْرِ حِسِّيًّا كَانَ، كَالْمَالِ وَالرِّجَالِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى السَّخِيِّ الْجَوَادِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَوْقِعُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْقِعُ كَلِمَةِ {الْأَبْتَرِ} فِي آخِرِهَا اللَّذَانِ اقْتَضَتْهُمَا الْبَلَاغَةُ وَتَأْبَى أَنْ يَحُلَّ غَيْرُهُمَا مَحَلَّهُمَا، فَهُوَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الْمَوْتَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الدَّوَائِرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَزُولُ بِزَوَالِ شَخْصِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [52: 30- 31] وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَمَا رَأَوْا أَبْنَاءَهُ يَمُوتُونَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، أَوْ صَارَ أَبْتَرَ، أَيِ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ بِانْقِطَاعِ وَلَدِهِ وَعَصَبِيَّتِهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْفَقْرَ وَانْقِطَاعَ الْعَقِبِ مَطْعَنًا فِي دِينِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَوْدِيعِ اللهِ لَهُ وَعَدَمِ عِنَايَتِهِ بِهِ تَبَعًا لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْغِنَى وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى رِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34: 35] وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَتَهُمْ، وَدَحَضَ حُجَّتَهُمْ، وَجَعَلَ فَأْلَهَمَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ لَمَّا بَيَّنَ مَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ، قَالَ مَا تَفْسِيرُهُ بِالْإِيجَازِ:
{إِنَّا} بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ {أَعْطَيْنَاكَ} أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {الْكَوْثَرَ} الَّذِي لَا تُحَدُّ كَثْرَتُهُ وَلَا تُحْصَرُ، مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَمَا لَا يُحْصَرُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْكَ فَتُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيُصَلَّى وَيُسَلَّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَالْحَوْضِ الَّذِي يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَحْشَرِ، فَلَفْظُ {الْكَوْثَرِ} يَشْمَلُ كُلَّ هَذَا وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَةِ وَنَبَأِ الْغَيْبِ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [16: 1] أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِنْشَاءِ... فَأَيْنَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُوَافَقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ كَلِمَةِ الْجُمَاهِرِ الَّتِي اسْتَبْدَلَهَا بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَهِيَ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الضَّخْمُ- أَوْ كَلِمَةِ الْجَوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُبَشِّرُ الْمُرْتَابُ السَّبَّابُ، وَهِيَ كَذِبٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ؟
وَوَصَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْعُظْمَى بِالْأَمْرِ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وَمُتَوَلِّي أَمْرِكَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، {وَانْحَرْ} ذَبَائِحَ نُسُكِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [6: 162] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِي يَتِمُّ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَبِحَجِّهِ وَنُسُكِهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ- وَقَدْ كَانَ- وَنَحَرَ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ خَاصَّةٌ بَعْدَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ الْعَامَّةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبِشَارَةٍ ثَالِثَةٍ: هِيَ تَمَامُ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ أَوْرَدَهَا مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ شَانِئِيهِ وَمُبْغَضِيهِ الَّذِينَ رَمَوْهُ بِلَقَبِ الْأَبْتَرِ وَتَرَبَّصُوا بِهِ الدَّوَائِرَ لِمَا يَرْجُونَ مِنَ انْقِطَاعِ ذِكْرِهِ وَاضْمِحْلَالِ دَعْوَتِهِ؟ فَأَجَابَ: {إِنَّ شَانِئَكَ} أَيْ مُبْغِضَكَ وَعَائِبَكَ بِالْفَقْرِ وَفَقْدِ الْعَقِبِ {هُوَ الْأَبْتَرُ} مِنْ دُونِكَ- وَهَذَا إِخْبَارٌ آخَرُ بِالْغَيْبِ قَدْ صَحَّ وَتَحَقَّقَ بَعْدَ كَرِّ السِّنِينَ، وَلَفْظُ شَانِئٍ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَمَعْنَاهُ عَامٌّ، فَهُوَ يَشْمَلُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا أَوْ مُوَافَقَةً لِإِخْوَانِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَقَدْ بُتِرُوا كُلُّهُمْ وَهَلَكُوا، ثُمَّ نُسُوا كَأَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا، وَزَالَ مَا كَانُوا يَرْجُونَ مِنْ بَقَاءِ الذِّكْرِ بِالْعَظَمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ وَالْعَصَبِيَّةِ، فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ، وَلَا يُنْسَبُ لَهُ عَقِبٌ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى إِيجَازِهَا فِي مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، قَدْ جَمَعَتْ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي فَسَّرَهَا الزَّمَانُ مَا تُعَدُّ بِهِ مُعْجِزَةً بَيِّنَةَ الْإِعْجَازِ، وَفِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَاللَّطَائِفِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ.

.أَنْبِيَاءُ الْعَجَمِ الْكَاذِبُونَ:

هَذَا وَأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْقَرْنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ دَجَّالُونَ مِنْ إِيرَانَ، فَالْهِنْدِ، ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَشَارِعٌ جَدِيدٌ فَإِلَهٌ مَعْبُودٌ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمُنْتَظَرُ، وَقَدْ أَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَسَائِلَ وَكُتُبًا عَرَبِيَّةً ادَّعَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لِلْأَنَامِ، عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ ضَلَّ بِكُلٍّ مِنْهُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَهْمًا صَحِيحًا، ثُمَّ تَأَلَّفَتْ لَهُمْ أَحْزَابٌ وَعَصَبِيَّاتٌ بِمُسَاعَدَةِ الْأَجَانِبِ الْمُسْتَعْمَرِينَ الطَّامِعِينَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ لَهُمْ ثَرْوَةٌ يَسْتَمِيلُونَ بِهَا النَّاسَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَنَارِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَا ظَهَرَ بِهِ جَهْلُهُمْ وَكَذِبُهُمْ، وَسَخَافَتُهُمْ فِيمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ.
وَقَدْ كَانَ لِأَعْرَضِهِمْ دَعْوَى كِتَابٌ سَمَّاهُ الْكِتَابَ الْأَقْدَسَ حَاوَلَ فِيهِ مُحَاكَاةَ الْقُرْآنِ فِي فَوَاصِلِ آيَاتِهِ وَفِي أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ أَتْبَاعَهُ الْأَذْكِيَاءَ لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِخْفَاءِ هَذَا الْكِتَابِ وَجَمْعِ مَا كَانَ تَفَرَّقَ مِنْ نُسَخِهِ الْمَطْبُوعَةِ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَا يَدْرِي إِلَّا اللهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَثِقُوا بِأَنَّهُمُ اسْتَرَدُّوا سَائِرَ نُسَخِهِ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَنْقِيحٍ، وَإِبْرَازِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ فِي ثَوْبٍ جَدِيدٍ. وَهَذَا الْعَمَلُ يُؤَكِّدُ انْفِرَادَ الْقُرْآنِ بِالْإِعْجَازِ، وَكَوْنَهُ هُوَ حُجَّةَ اللهِ الْبَاقِيَةَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.
بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن الأدلة التي يستند إليها المشككون في القرآن الكريم. وهي أدلة لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق. تحداهم بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، وأن يستعينوا بمن يريدون من دون الله، لأن القرآن كلام الله، والله سبحانه هو القائل. وبما أنهم يحاولون التشكيك في أن القرآن كلام الله. وأنه منزل من عند الله، فليستعينوا بمن يريدون ليأتوا بآية من مثله، لأن التحدي هنا لا يمكن أن يتم إلا إذا استعانوا بجميع القوى ما عدا الله سبحانه وتعالى.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بالنتيجة قبل أن يتم التحدي. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوا ولن يستطيعوا.
إن قوله سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} معناه أنه حكم عليهم بالفشل وقت نزول القرآن وبعد نزول القرآن إلي يوم القيامة. لأن الله لا يخفى عن علمه شيء. فهو بكل شيء عليم. وكلمة لم تفعلوا عندما تأتي قد تثير الشك. فنحن نعرف أن مجيء إن الشرطية يثير الشك.. لأن الأمر لكي يتحقق يتعلق بشرط. وأنت إن قلت إن ذاكرت تنجح، ففي المسألة شك.. أما إذا قلت كقول الحق {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فمعنى ذلك أن نصر الله آت لا محالة.
وإن حرف وإذا ظرف، وكل حدث يحتاج إلى مكان وزمن. فإذا جئت بأداة الشرط فمعنى ذلك أنك تقربها من عنصر تكوين الفعل والحدث. فإذا أردت أن تعبر عن شيء سيتحقق تقول إذا، وإذا أردت أن تشكك فيه تقول إن والله سبحانه وتعالى قال: {فإن لم تفعلوا} ولأن الفعل ممكن الحدث أراد أن يرجح الجانب المانع فقال: {ولن تفعلوا} هذا أمر اختياري. فإذا تكلمت عن أمر اختياري ثم حكمت أنه لن يحدث. فكأن قدرتك هي التي منعته من الفعل. فلا يقال أنك قهرته على ألا يفعل. لا. علمت أنه لن يفعل. فاستعداداته لا يمكن أن تمكنه من الفعل.
وهذه أمور ضمن اخبارات القرآن الكريم في القضايا الغيبية التي أخبر عنها، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} معناه أنهم مصدقون ولكن ألسنتهم لا تعترف بذلك. وقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} معناه أن الشك مفتعل في نفوسهم؛ هم لا يريدون أن يؤمنوا ولذلك يأتون بسبب مفتعل لعدم الإيمان. لقد استقر فكرهم على أنهم لا يؤمنون، ومادام هذا هو ما قررتموه. فإنكم ستظلون تبحثون عن أسباب ملفقة لعدم الإيمان.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.
الحق سبحانه وتعالى يريد هنا أن يلفتنا إلى صورة أخرى عن عجز هؤلاء الكفار. فهم بحثوا عن أعذار، ليبرروا بها عدم إيمانهم وتظاهروا بأنهم يشكون في القرآن الكريم. يقول لهم: لو كانت لكم قدرة وذاتية فعلا فامنعوا أنفسكم من دخول النار يوم القيامة. كما منعتم انفسكم من الإيمان في الدنيا.
وهذا وعيد من الله. لقد أعطاهم ذاتية الاختيار في الدنيا ولم يختاروا قهرًا بل اختاروا عدم الإيمان بمشيئة الاختيار التي أعطاه الله لهم. ولكن هناك وقت ليس فيه اختيار وهو الآخرة فحاولوا أن تتقوا في الآخرة عذاب النار يوم القيامة. ولكن لن يكون لأحد اختيار. فالله سبحانه وتعالى يقول في ذلك اليوم: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
ويقول جل جلاله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
فإرادتكم التي منعتكم من الإيمان.. لن تقيكم يومئذ من عذاب النار، واقرأ قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
لماذا هم وما يعبدون؟ لأن العابد يرتجي نفع المعبود. فكأنهما عندما يرى كل منهما الآخر في العذاب. تكون الحسرة أشد. ولذلك فإن الحجارة والأصنام التي يعبدونها ستكون معهم في النار يوم القيامة. وليس هذا عقابًا للأحجار والأصنام. لأنها خلق مقهور لله مسبح له، ولكن هذه الأصنام والأحجار تكون راضية وهي تحرق الذين كفروا بالله. وتقول: عبدونا ونحن أعبد لله من المستغفرين بالأسحار.
وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الله سبحانه وتعالى يخبرهم وهم في الدنيا، أن النار أعدت للكافرين. وقوله تعالى النار أعدت للكافرين تطمين غاية الاطمئنان للمؤمن. وإرهاب غاية الإرهاب للكافر.. وقوله تعالى: {أعدت} معناها أنها موجودة فعلًا وإن لم نكن نراها. وأنها مخلوقة وإن كانت محجوبة عنا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم منها بقطاف لفعلت».
وهذا دليل على أنها موجودة فعلًا.
والمؤمن حينما يعلم أن الجنة موجودة فعلًا وأن الإيمان سيقوده إليها فإنه يحس بالسعادة ويشتاق للجنة. فإذا سمع قول الحق سبحانه وتعالى: {أُوْلَائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10- 11].
ساعة تقرأ هذه الآية الكريمة تعرف أن الله سبحانه وتعالى سيجعلك في الجنة تأخذ ما كان لغيرك. لأن الميراث يأتيك من غيرك. وقد سبق علم الله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعًا. وقبل أن يخلق أعد لكل خلقه مقعدًا في النار ومقعدًا في الجنة. الذين سيدخلون النار خالدين فيها، مقاعدهم في الجنة ستكون خالية، فيأتي الله سبحانه وتعالى يعطيها للمؤمنين ليرثوها فوق مقاعدهم ومنازلهم في الجنة. والحق سبحانه عندما يقول: {أعدت} فهي موجودة فعلًا. اهـ.